الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً لربوبيته، وإرغاماً لمن جحدَ به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- سيد الخلق والبشر.
خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت:
أيها الإخوة الكرام؛ الحقيقة أن الإنسان إذا عرف نفسه عرف ربه، فمن أنت أيها الإنسان؟ قد يغرق الإنسان في جزيئات الحياة، من موعدٍ إلى موعد، ومن لقاءٍ لآخر، ومن برنامج عمل لآخر، ثم يُفاجَأ بدنوّ أجله، وعندئذ يكتشف -بعد فوات الأوان- أنه وقع في خطأ كبير، لذلك بإمكانك أن ترفض أي شيء إلا الإيمان لك معه خيار وقت، لأن أكفر كفار الأرض فرعون الذي قال:
﴿ فَقالَ أَنا رَبُّكُمُ الأَعلى (24)﴾
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)﴾
حينما أدركه الغرق قال:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾
فمع ذلك خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت، فإما أن تؤمن في الوقت المناسب وأنت شاب، قوي، غني، متمكّن، بإمكانك أن تطيع الله -عزَّ وجلَّ- وإما أن يأتي الإيمان بعد فوات الأوان، كمن يدخل الامتحان، ولم يدرس إطلاقاً، فقدّم الورقة بيضاء ونال علامة الصفر استحقاقاً، عاد إلى البيت وفتح الكتاب المقرر وقرأ البحث وفهمه، متى جاء الفهم؟ بعد فوات الآوان، فالبطولة أن نؤمن قبل فوات الأوان ونحن أحياء، مادام القلب ينبض فالفرصة كبيرة، أنت في بحبوحة التوبة، الإنسان متاح له أن ينجو بالتوبة، ومتاح له أن ينجو بالاستغفار، فإذا فرّط بالتوبة والاستغفار وقع في شر عمله.
الإنسان هو المخلوق الأول والمكرم والمكلف:
الإنسان -أيها الإخوة- كحقيقة يقينية هو المخلوق الأول عند الله لقوله تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾
لأنه قبِل حمل الأمانة في عالم الأزل كان عند الله المخلوق الأول، وهو المخلوق المُكرَّم.
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾
والإنسان هو المخلوق المكلف، أنت مُكلَّف بعبادة الله، قال تعالى:
﴿ وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ (56)﴾
ومن أدق تعريفات العبادة أنها طاعة طوعية، الذي خلقك وحياتك بيده، ومصيرك بيده، ما أراد أن تطيعه إكراهاً، قال:
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾
أراد أن تأتيه مُحِباً، قال:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَآئِمٍۢ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾
﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ ۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ (165)﴾
ما أراد الله أن تكون علاقتك به علاقة إكراه، فقال: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ لكنه أراد أن تكون علاقة حب، لذلك الحب أصل كبير في هذا الدين، فمن علامة إيمانك أن تحب الله، ومن فروع محبة الله أن تحب أنبياءه ورسله جميعاً، وأن تحب محمداً -صلى الله عليه وسلم-، وأن تحب المؤمنين، وأن تحب المسلمين ولو كانوا متخلفين ومقصرين، أنت منهم، وهذا هو الانتماء، ما لم يكن انتماؤك إلى مجموع المؤمنين فلست مؤمناً، لقوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)﴾
فالانتماء شرف للمسلم، فلذلك -أيها الإخوة- أنت المخلوق الأول عند الله؛ لأنك في عالم الأزل قبلت حمل الأمانة، وأنت المخلوق المُكلَّف بعبادة الله، وأنت مخلوق مكرم.
الإنسان زمن كلما انقضى يوم انقضى بضع منه:
لكن من أنت؟ ما رأيت تعريفاً جامعاً مانعاً للإنسان كتعريف التابعي الجليل الحسن البصري: "الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بِضعٌ منه" ، أنت زمن، ولأنك زمن، ولأنك بضعة أيام، ولأنه كلما انقضى يوم انقضى بضع منك، البطولة أن تؤمن، لأنك زمن أقسم الله لك أيها الإنسان الأول بمطلق الزمن، فقال:
جواب القسم:
﴿ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ (2)﴾
إلهنا، ربنا، قيوم السماوات والأرض يقسم لكم جميعاً وأنا واحد منكم أننا خاسرون، قال بعض العلماء: لأن مُضيّ الزمن يستهلكنا، أنت بضعة أيام تملك وقتاً، أقول لكم بكل دقة: أثمن شيء تملكونه هو الوقت، الوقت وعاء عملكم، بالوقت تتوب، بالوقت تصحح، فلأنك زمن أقسم الله بمطلق الزمن، فأخبرك في جواب القسم أنك خاسر، لأن مضي الزمن يستهلكك فقط، مُضي الزمن وحده، سبت أحد اثنين ثلاثاء أربعاء خميس جمعة أسبوع، أسبوع ثانٍ، ثالث، رابع شهر، شهر ثانٍ، ثالث، رابع فصل، فصل ثانٍ، ثالث، رابع سنة، عدة عقود، عمر الإنسان عدة عقود، يُفاجَأ بحياة أبدية سرمدية لا تنقضي، فإما في جنة يدوم نعيمها، أو في نار لا ينفد عذابها.
إخواننا الكرام؛ مثل بسيط منُتزَع من واقعنا أضربه لكم من بلاد الشام؛ شخص مسافر من دمشق إلى حمص في أيام الشتاء، فلما خرج من دمشق قرأ لوحة كُتب عليها: الطريق مغلقة في النبك -مدينة بين المدينتين- بسبب تراكم الثلوج، هو في الشام، والشمس ساطعة، والطريق جاف ماذا يفعل؟ يرجع، ما الذي أرجعه؟ كلمات فقط، فالإنسان العاقل يتبع للنص، والدين نص، نص قرآني، ونص نبوي شارح، فالإنسان العاقل أربع كلمات أرجعوه وغيّر الاتجاه، والطريق جاف، والشمس ساطعة، لكن الطريق مغلق بعد ثمانين كيلو متراً، أرجعك النص، أما لو أن دابة تسير إلى حمص أين تقف؟ الدابة تقف عند الثلج، ما الذي أرجعها؟ الواقع، لا تكن واقعياً، كن نصياً، دينك نص، دينك وحي السماء، دينك شرع سيد الأنبياء، مادمت تخضع للنص فأنت عاقل، أما الذي يخضع للواقع فيقترب من البهائم، طبعاً حينما يقرأ مقالة عن التدخين، والمقالة تؤكد بمئة دليل ودليل أن الدخان قد يسبب سرطاناً في الرئتين يمتنع قارئ المقالة عن الدخان بعد قراءة المقالة، أما الذي يصاب بالسرطان فيمتنع عن الدخان لكن متى؟ بعد فوات الآوان، فلا بد أن نؤمن، إما أن تؤمن في الوقت المناسب، وأنت شاب صحيح قوي غني مالك إرادتك، وإما أن يأتي الإيمان كإيمان فرعون بعد فوات الأوان، الله -عزَّ وجلَّ- خاطبه وقال:
﴿ ءَآلْـَٰٔنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ (91)﴾
فأنت زمن، وأخطر شيء في الزمن أنه سينقضي، ومع انقضاء الزمن ينتهي الإنسان، يتلاشى.
فيا أيها الإخوة الكرام؛ يوجد كلام خطير أو بتعبير آخر مصيري يحدد مصيرك: الدين ليست قضية وردة تضعها على صدرك وتنزعها متى تشاء، الدين هو الهواء الذي تتنفسه، فبدون هواء يموت الإنسان، حاجتك إلى الدين كحاجتنا إلى الهواء، أنت إنسان أودع الله فيك الشهوات، هذه الشهوات حيادية، إما أن تكون سبب رقيّك أو سبب هلاكك، الشهوة نفسها! كيف؟ صفيحة البنزين مادة متفجرة، إن وضعتها في مستودع المركبة المُحكَم، وهذا البنزين سالَ في الأنابيب المُحكَمة، وانفجر في الوقت المناسب في المحرك وفي المكان المناسب ولّد حركة نافعة، تُقِلّك أنت وأهلك إلى مكان جميل، ما الذي يجري في السيارة؟ انفجارات لكن منضبطة، أما حينما تُصَبّ هذه الصفيحة على المركبة وتعطيها شرارة، هذا البنزين يُحرق المركبة ومن فيها، فالشهوات قوة دافعة أو قوة مدمرة، لي جار في الشام عاش مئة وعامين، زرته مرة قال لي: عندي ثمانية وثلاثون حفيداً، معظمهم حُفّاظ لكتاب الله وأطباء، خرجت من عنده قلت: هذا الإنسان تزوج امرأة أنجب أولاداً وبنات، الأولاد أتوا له بالكنائن، والبنات جلبوا له الأصهار، الصف الثاني أولاده وأزواجهم، بناته وأصهاره، الصف الثالث ثمانية وثلاثون حفيداً، هذا الهرم المبارك أساسه بيولوجياً علاقة جنسية، وفي كل بيت دعارة يوجد علاقة جنسية، شهوة تثمر جيلاً صالحاً، جيلاً مؤمناً، جيلاً راقياً، أو تثمر سقوطاً من عين الله، فلذلك -دققوا في هذا الكلام-: ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، بالإسلام لا يوجد حرمان لكن يوجد تصعيد، توجيه أي ترقية، فلذلك المؤمن عاداته عبادات، زواجه عبادة، شهوة المرأة تحققت بالزواج؛ عبادة، عمله عبادة، تربية أولاده عبادة، نزهته عبادة، عادات المؤمن عبادات، وقد تكون عبادات المنافق سيئات، فيا أيها الإخوة الكرام؛ خيارك مع الدين خيار استراتيجي في التعبير المعاصر، خيار أصيل، خيار خطير، خيار مصير، فالتدين ليس وردة تضعها أو تنزعها، التدين هواء تستنشقه، فلا بد أن تتنفس، فإذا كان الهواء نقياً انتعش جسمك، وإذا كان فاسداً أُصيب الإنسان بالأمراض، فلذلك أنت مخلوق لمعرفة الله، علة وجودك أن تعرف الله، وقد جاء في الأثر: (ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء) ، (إني والإنس والجن في نبأ عظيم؛ أَخلُق ويُعبد غيري، أَرزق ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها) .
أيها الإخوة الكرام؛ خيار الدين خيار مصير، خيار حق، خيار موت أو حياة، خيار سعادة أو شقاء، خيار نجاة أو وقوع، خيار الدنيا والآخرة، أما خيار الدنيا فقد تنجح في الدنيا.
الفرق بين الفلاح والنجاح:
لذلك دققوا، في القرآن مصطلحان؛ مصطلح الفلاح ومصطلح النجاح، قد تنجح في جمع المال ولا تنجح مع الله، قد تنجح في بيتك ولا تنجح خارج البيت، قد تنجح خارج البيت ولا تنجح داخل البيت، فالنجاح جزئي، أما الفلاح شمولي، الله -عزَّ وجلَّ- وصف المؤمنين بأنهم هم الفالحون، فالفلاح أن تحقق علة وجودك، يقول الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
أي علة وجودك أن تؤمن وأن تشكر، فإذا آمنت وشكرت حققت الهدف من وجودك، وحينما تحقق الهدف من وجودك تتوقف معالجة الله لك، والله -عزَّ وجلَّ- يعالجنا بمليون باب؛ الكآبة معالجة، المرض النفسي معالجة، المرض الجسمي معالجة، الشِّقاق الزوجي معالجة، أولاد عاقّون معالجة، فهناك مليون باب، أحدها يكفي لتعيش بشقاء كبير جداً، مثلاً: إخواننا الكرام المقيمون في هذه البلاد، أنا أتصور أن أكبر مشكلة تواجههم أولادهم؛ لأنني كنت أقول في أمريكا -وقتها كان كلينتون الحاكم-: لو بلغت منصباً ككلينتون، وثروة كأونسيس، وعلماً كأنشتاين ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس، سعادتك حيمنا ترى ابنك طائعاً لله، مُنيباً لله، أما حينما ترى الابن والابنة تفلّتا من منهج الله فهذا شقاء خطير يصيب الأب والأم.
تربية الأولاد أكبر مشكلة تواجه الجاليات الإسلامية في الغرب:
كأني أضع يدي -وأرجو الله كذلك-على أكبر مشكلة تواجه الجاليات الإسلامية في بلاد الغرب؛ أولادهم، إن لم يسعد ابنك فأنت تشقى بشقائه، هناك ارتباط عضوي ومصيري بينك وبين ابنك، فكلما بذلت جهداً في تربية أولادك كنت في طريق السلامة والسعادة، لكن تقريباً قالوا: إن العلوم تتجه من الوصف إلى الرياضيات، كيف؟ هبوط الطائرة يسبب إزعاجاً، ضجيجاً، هذا الضجيج الآن له مقياس الديسبيل، يقول لك: هبوط الطائرة مئة وخمسة وعشرون ديسيبل، أُعطي للضجيج مقياس، فإذا أُعطيت للتربية مقاييس، وحدات، فابنك في بلدك؛ خاله أمامه، عمه أمامه، بيت عمه أمامه، يوجد انضباط عام حوله، الدين له مكانة كبيرة، يوجد حشمة، يوجد حياء، يوجد خجل، فإذا كنت في بلاد المسلمين تحتاج إلى مئة وحدة تربية، هنا تحتاج إلى ألف وحدة تربية، فما لم يكن هناك جهد استثنائي، متابعة دقيقة، جلوس مع الأبناء ساعة في اليوم، مناقشتهم وحوارهم، تكتشف فجأة وبعد فوات الأوان أن ابنك لا ينتمي إليك كلياً، عندي آلاف الشواهد، أنا زرت معظم بلاد الأجانب، فالجاليات الإسلامية أكبر ما تعاني منه هو مستقبل أولادها، شعور الأب الذي حصّل المال، وفقد أولاده فقدَ كل شيء ما حصّل شيئاً، أنت استمرارك بأولادك، سعادتك بأولادك، في ذريتك، فأنا حينما ألتقي بإخوة كرام في بلاد الغرب أذكرهم بهذه المشكلة الكبيرة التي تنتظر -لا أقول كلهم- معظمهم، لكن معلوماتي الدقيقة أن الذي يعتني بأولاده -كما كنت أقول- لا يزيد عن ثلاثة بالمئة، مرة قلت: خمسة بالمئة، قال لي أحدهم: هذا خطأ ارجع إلى ثلاثة بالمئة، فهذه النسبة الصحيحة، ثلاثة بالمئة فقط ينجو أولادهم من مطبّ الاغتراب، الاغتراب مشكلة كبيرة جداً، يوجد آخرة، يوجد موت، يوجد حساب، يوجد جنة، يوجد نار، وأنت مسؤول عن الأولاد، الإنسان مسؤول عن أهله.
أيها الإخوة الكرام؛ لذلك في كل بلد شيءٌ يطفو على السطح يأخذ المرتبة الأولى، هنا تربية الأولاد، جهد، أما ثمرة هذا الجهد فلا توصف، قالها القرآن الكريم:
﴿ وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍۢ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)﴾
حينما ترى ابنك صالحاً، إيمانه صحيح، مستقيماً، يؤدي الصلوات، يبتعد عن محارم الله، تشعر بسعادة لا توصف، شخص بأمريكا فقد ابنته، شيء عجيب! خمسة عشر يوماً لم تأتِ ابنته للبيت، بعدها جاءته رسالة منها قالت له: أنا أحببت شخصاً -طبعاً غير مسلم- وأنا الآن في تكساس، وهو في ولاية أخرى، ركب سيارته وتجشّم المشاق، وسار إلى العنوان الذي أعطته إياه ابنته، وصل وجدها متزوجة هذا الإنسان فلا يوجد مجال، أقنعها أن تذهب معه رضيت، ركبت معه السيارة، واشترى بعض الأشياء وبعد فترة دخلت الاستراحة وخرجوا من الاستراحة، بعد حين جاءت سيارة الشرطة وأخذت منه ابنته، لأنها كانت قد كتبت على المرآة بالقلم الأحمر: أنا مخطوفة من قِبَل والدي، ورقم سيارته كذا، نعم في الغرب ميزات كبيرة، كنت أقول بلاد الغرب تعتبر كالجنة إن رأيتها بشبكية العين، أما بالدماغ الذي يبعد عشرة سنتيمترات عن العين اختلفت الصورة.
العبرة بالمستقبل:
يا إخوان؛ العبرة في المستقبل لا أن تعيش الحاضر أن تعيش المستقبل، أن تعيش مستقبل أولادك، أنا أعرف جالية في البرازيل، كل أولادهم ليسوا مسلمين قطعاً، أنا زرت معظم بلاد الغرب، جميع الأولاد ليسوا مسلمين أبداً، هذه مشكلة كبيرة، فأنا حينما آتي إلى هنا -أنا أتيت من مسافة عشرة آلاف كيلو متراً- لا بد من نصيحة؛ اهتموا بأولادكم، قِوام سعادتكم، قِوام استقراركم، قِوام هدوئكم، أما هذا القلق النفسي فلا يُحتَمل، أن ترى ابنك لا ديني إطلاقاً، مرة قال لي شخص في أستراليا وهو طيار، أنه قال لأحدهم: هذا حرام، فأجاب: لماذا حرام –هو يسخر-، فقال: عيب، فأجاب: لماذا عيب؟ وبعدما ركب لحق به أخوه أيضاً، هذه مشكلة كبيرة أيضاً، أنت وجودك بأولادك، استمرارك بأولادك، أولادك أكبر عمل صالح، قال رسول الله -صلى الله عليه سلم-:
(( إنَّ أطيَبَ ما أكَلَ الرَّجلُ مِن كَسْبِه، وإنَّ ولَدَه مِن كسْبِه ))
[ أخرجه النسائي عن عائشة أم المؤمنين ]
أطيب اسم تفضيل، طبعاً هناك مليون ميزة في هذه البلاد نعرفها كلها، هناك ميزات كبيرة لكن عند الموت تنتهي الميزات كلها، أيضاً الناس هنا تموت، في كل مكان الناس تموت، فعند الموت ينتهي كل شيء، عند الموت ينتهي جمال الطبيعة، تنتهي النُّظم الديمقراطية الرائعة، تنتهي الحريات الممنوحة لهذه البلاد، تنتهي المكاسب المادية، كله ينتهي، يبقى الحساب الدقيق من الله، لماذا فعلت كذا؟ أين كنت؟ لذلك أيها الإخوة؛ ﴿وَالعَصرِ﴾ أقسمَ الله لكم بمطلق الزمن، لهذا المخلوق الأول الذي هو زمن قال له:
﴿ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ (2) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ(3)﴾
الدين قضية مصيرية متعلقة بمصير الإنسان في الدنيا والآخرة:
الآن دخلنا بالموضوع الإيجابي، (إِلَّا) استثناء من الخسارة ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ﴾ سماها الإمام الشافعي: أركان النجاة، أي هل اقتطعت من وقتك الثمين وقتاً لمعرفة الله؟ هل هناك إنسان ما أخذ شهادة الابتدائي ولا الإعدادي (التوجيهي) ولا الثانوي ولا الجامعة وقال: أنا دكتور! من أجل أن تضع (د) بجانب اسمك، فقط د. اسمك، تدرس ثلاثاً وثلاثين سنة لتحصل على ثلاث عشرة شهادة لتضع (د) جانب اسمك، فمن أجل أن تضع بجانب اسمك مؤمن تستحق الجنة، لا يوجد دراسة أبداً؟! لا يوجد طلب علم؟! لا يوجد انضباط؟! لا يوجد منهج؟! فالدين قضية مصيرية متعلقة بمصيرك في الدنيا والآخرة، متعلقة بعلاقة الله بك، متعلقة بالتوفيق أو التعسير، متعلقة بالصحة والمرض، متعلقة بالزواج الناجح أو غير الناجح، متعلقة بأولاد أبرار أو عاقين، متعلقة بمشاكل لا تنتهي، بلغني من دكتور في علم النفس أن في العالم الغربي نسبة الأمراض النفسية هناك 152%، قلت له: هذه النسبة أول مرة أسمعها! ممكن أن تكون 80%، 90%، 100%، قال لي: مئة معهم مرض نفسي، والاثنان والخمسون معهم مرضَين نفسيَّين، فالبعد عن الله يسبب أمراضاً نفسية كبيرة جداً، فأنت بحاجة إلى الدين كما تحتاج إلى الهواء، إنَّ هذا العِلمَ دِينٌ، فانظُروا عمَّن تأخُذون دينَكم.
﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ لا بد أن تقتطع وقتاً للإيمان، تحضر درس علم، تراجع قضية في الفضائية عن عالم تثق بعلمه، ترتاح لكلامه، تتابعه، فوسائل التعليم الآن لا تنتهي، بضغطة زر تدخل إلى ألف موقع إسلامي، أي موضوع، أي تفسير آية، أي شيء بين لديك، وإذا كان في المسجد درس علم فهذا أفضل، من لم يأخذ العلم عن الرجال فهو ينتقل من مُحال إلى مُحال، لا بد من أستاذ تقف بين يديه، على كُلٍّ الدين قضية خطيرة، وقضية مصيرية، وقضية متعلقة بالسعادة والشقاء، والتوفيق وعدم التوفيق، لذلك ﴿إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ﴾ جواب القسم، ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾ هذا الإيمان العظيم من دون تطبيق لا قيمة له، يغدو لا شيء، من دون تطبيق لا شيء، يسميه العلماء: الإعجاب السلبي، ولا يوجد مسلم في الأرض إلا ويعتز بدينه، دين عظيم، خاتم الأنبياء، سيد الرسل، قرآن كريم، وحي السماء، كل هذا صحيح لكنك لا تطبق منه شيئاً، البطولة بالتطبيق لا في التعظيم، طبِّق قبل أن تعظِّم ﴿وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ﴾ ، فالدعوة إلى الله فرض عين، المفهوم عندكم أنه فرض كفاية إذا قام به البعض كالعلماء والدعاة والخطباء يسقط، لا، هو فرض عين في حدود ما تعلم ومع من تعرف، سمعت هذه الخطبة تأثرت أخبِر أخاك بها، صديقك، مَن زارك بعد يومين، هذه فرض عين في حدود ما تعلم، ومع من تعرف، ﴿وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ﴾ أي صبروا على طلب العلم، وصبروا على العمل به، وصبروا على الدعوة إليه، وصبروا على كل ذلك.
أيها الإخوة الكرام؛ اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهِنّا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضِنا وارضَ عنا، والحمدلله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغُرّ الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
إخواننا الكرام؛ يوجد بحث علمي دقيق جداً بدقائق، الإنسان عندما يذبح الدابة يوجد بالدابة كما يوجد بالإنسان أجهزة مشتركة، يوجد جهاز يعطي أمراً للقلب يرفع النبض إلى مئة وثمانين نبضة، القلب ينبض ثمانين نبضة بأمر ذاتي، لأنه أخطر عضو لا يحتاج إلى الشبكة العامة، يوجد عنده مولدة خاصة، يوجد عنده كهرباء ذاتية، يوجد عنده مركز كهربائي يتلقى الأمر منه، لو تعطل فهناك مركز ثانٍ احتياط، لو تعطل يوجد مركز ثالث، أما عندما يواجه خطراً فيحتاج إلى مئة وثمانين ضربة، الأمر لا يأتي من القلب نفسه بل يأتي من الدماغ؛ فلذلك قطْع رأس الدابة يقطع الأمر الاستثنائي الذي يأتي من الدماغ فيبقى القلب على نبضاته، النبض الطبيعي يُخرِج فقط ربع الدم من الدابة، فكل ذبيحة ذُبِحت بخلاف إنهاء الدم -كما قال النبي الكريم- يبقى دمها فيها، ولونها أزرق، هذا الفرق بين الذبح الإسلامي الشرعي والذبح الآخر، فحينما تتطابق حقائق العلم تطابقاً تاماً مع منهج الله، معنى ذلك أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن، وهو الذين أرسل النبي العدنان، فمنهجه منهج علمي، فلذلك مرة ذهب وفد لشراء لحم من الصين وطالبوه بهذه الطريقة الإسلامية، فرفض ورفع السعر ثمانية دولارات، قال: يخرج الدم كله إذا ذبحناها هكذا، والدم نجس كما تعلمون، فهذا الدين ينطلق من حقائق العلم، أروع شيء في هذا الدين أن العلم والدين متلازمان، لا يوجد تناقض بينهما إطلاقاً؛ لأنه من الذي أرسل لكم هذا الدين؟ خالق السماوات والأرض، من الذي قنَّن القوانين؟ هو الله، فالمقنِّن هو الله والمشرِّع هو الله، فشيء طبيعي جداً أن ترى تطابقاً تاماً وعقلياً وغير متكلَّف بين الدين والعلم.
اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، اللهم أعطِنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهِنَّا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضِنا وارضَ عنا، اللهم وفق ولاة المسلمين لما تحب وترضى، واحقن دماءهم، واحقِن دماء أهل الشام يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين، عباد الله:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ وَإِيتَآئِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْىِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾
الملف مدقق